إن ما يثيره مرصد رقابة من قضايا فساد مهولة داخل مؤسسات الدولة والقطاع العمومي يطرح في واقع الأمر مسألة مبدئية وجب التعامل معها بجدية وحزم كبيرين للنهوض بهذه المؤسسات من جديد، ألا وهي مسألة غياب شفافية التعامل وانعدام الحوكمة المستدامة كأسّين رئيسيين من أسس تدبير الشأن العام. وسنفصّل القول في هذه المسائل من خلال سلسلة من المقالات التحليلية المتتالية ننشرها تباعا.
نؤكد في البداية، ومن منطلق علم الاقتصاد السياسي، إنه واهم من يتصور إمكانية قيام دولة متوازنة ومجتمع متجانس دون وجود اقتصاد دولة ومؤسسات عمومية تعود ملكيتها إلى عموم الشعب وتتمتّع بمردودية معقولة. وواهم أيضا من يعتقد إن دور الدولة يمكن أن يقتصر على مجرّد إدارة الشأن العام من خلال جمع الضرائب. فهذا النموذج لا يستجيب إلى أي مقوّم من مقومات أي مجتمع من المجتمعات التي تعي جيّدا معنى المواطنة ومعنى الدولة مثل سويسرا والبلدان الإسكندنافية بأكملها وكذلك كندا. كما لا يمكن التعويل على هكذا نموذج، يقوم على التفريط في كل مؤسسات الدولة لتدبير شؤون المجتمع التونسي الذي فقد إلى حدّ مخيف تجانسا بين طبقاته لتنفصم عراه بين فقراء معدومين، من ناحية، ومحتالين ولصوص مصّاصي دماء وآكلي لحوم البشر، من ناحية أخرى. كما لا مندوحة في هذا المقام من ترك النماذج التي تتآكل في محيطها الخاص جانبا لعدم تماشيها مع مقتضيات المجتمع التونسي الذي بمقدوره متى امتلك ملء إرادته ابتداع نموذجه المجتمعي الخاص به دون غيره.
تتقاسم جملة هذه البلدان المذكورة مفهوما متجانسا حول نموذج المجتمع الذي أَرْسَتْ دعائمه عبر عقود طويلة من الزمن يجمع بين الحرية الفردية التي فرضتها تراتيل الليبرالية الحديثة، من ناحية، والمحافظة على توازن مخصوص بين مختلف طبقات المجتمع، من ناحية أخرى. وبرغم عدم جدوى تأليه هذا النموذج المجتمعي أو اسقاطه كما هو على واقع الحال في تونس، إلا إنه من الملفت للانتباه عدم تفريط جملة هذه الدول في القطاع العام، مثلما تفعل ببشاعة كلّ من فرنسا والمملكة المتحدة على وجه الخصوص، وحرصها على امتلاك شركات كبرى ذات مردودية عالية وتمسّكها بالثروات الباطنية ومجانية التعليم وتألّقه والصحة والبنية التحتية والمواصلات، وغيرها.
والملفت حقّا هو مواصلتها الدؤوبة ترسيخ ثقافة المحافظة على هذه المؤسسات العمومية وتطويرها كإرث مشترك تصونه الأجيال برمش عيونها في حسّ وطني لا تشوبه شائبة الفساد. وهو عين ما ينقص جملة اللصوص التوانسة الذين يتعاملون مع المكتسبات المشتركة بمفهوم "رزق البيليك" يمكن الاستفادة منه قدر المستطاع وبلا حدود. وهم بذلك يرتكبون شناعات كبرى في حق الدولة والمواطن الذي تعود إليه ملكية هذه المؤسسات. كما يرتكبون أيضا جملة من المخالفات القانونية والجرائم الموصوفة في حق الدولة والمواطن تستوجب إحالتهم على العدالة، وفق أصول دستورية وقانونية تزخر بها تونس للقطع مع عقلية الإفلات من العقاب التي توارثها هؤلاء من مخلّفات العقود الماضية.
وبالإضافة إلى انعدام معايير واضحة ومتينة للشفافية والحوكمة المستدامة في التعاطي مع مؤسسات الدولة والشركات العمومية وانعدام الحس الوطني عند نسبة من التوانسة اللصوص الذين يتعاملون بمنطق الغنيمة مع هذه المؤسسات والشركات، فإن جملة المعطيات الملموسة والمعلومات الواقعية التي يتعامل معها مرصد رقابة تؤكد دون ريب زيف ما ينحو إليه دعاة تفليس الشركات الوطنية وعرضها للبيع بأبخس الأثمان، إما مقابل فُتات آنيّ يسعون إليه من خلال رشوة وعمولات لا تسمن ولا تغني من جوع، ودون وجه حق، أو لغايات سياسية في نفس نبيّ الله يعقوب.
وإن المشكلة الأساسية لا تكمن أبدا في عدم قدرة القطاع العام على التأقلم مع متطلّبات السوق ومقتضيات المنافسة، بل تكمن بالأساس في خليط عجيب من سوء التصرّف والتدخّل المفضوح من لصوص بعينهم للمحافظة على هذه المؤسسات كمورد رزق للفاسدين حتى طَرْحِها أرضا، كما هو الحال الآن مع الشركة الوطنية للطيران. هذه الغزالة الوديعة التي يلفّها جمع من الضباع.
لا يمكن بأي حال أن نبخس الكفاءات التونسية حقها في الجدارة. ولا أحد بإمكانه الشكّ في قدرة هذه الكفاءات على النهوض بالقطاع العام، مهما عَظُمَتْ التحديات، ورغم تقصير الدولة في الاعتناء بتطوير مهاراتهم المهنية والتقنية. كما لا يمكن أن نلقي باللّوم كلّه على شعب بأكمله ما اعتاد يوما على ممارسة حقّه السيادي في مراقبة الفضاء العمومي من خلال آليات محددة، أو على دولة حديثة العهد بالممارسات الديمقراطية تسمع عن شيء ما اسمه الشفافية والحوكمة المستدامة كشبح وأضغاث أحلام.
لأجل ذلك كلّه، يعمل مرصد رقابة جاهدا على تطوير آليات رقابة يمارسها المواطن للقطع مع الرشوة التي تنخر جسد الدولة والقطاع العام. ولن يتوانى لحظة في العمل على تمكين المواطن من حقّه الطبيعي في النفاذ إلى المعلومة لترسيخ مبدأ شفافية التعاطي مع الشأن العام. ويسعى بحرفية عالية إلى التأسيس لجملة من المعايير الصارمة تتعلّق بقياس مدى الاستجابة إلى مبدأي #الشفافية و #الحوكمة المستدامة في مجال تدبير الشأن العام من مؤسسات وشركات تابعة للدولة أو تعود إليها بالنظر. وستُدرّسُ هذه المعايير والمبادئ ضمن ديبلوم اختصاص شفافية وحوكمة مستدامة لمن أراد إلى ذلك سبيلا.
جنيف، 18 ماي 2020
عبد الكريم بلقاسم
مختص في التواصل متعدد اللغات
في المجال السياسي والتعاون الدولي
عضو مرصد رقابة