تقدّم “مرصد رقابة” يوم الاثنين 1 نوفمبر 2021 إلى رئاسة الحكومة بمقترح لتنقيح قانون “الحساب الخاص لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”، بعد أن عاين تبديدا للمال العام مخالفا للقانون المنظم لعمل هذا الحساب.
جاء ذلك في رسالة وجهها المرصد إلى السيدة رئيسة الحكومة مرفقة بما يفيد الحاحيّة العمل بهذا المقترح بعد أن تحوّل “الحساب الخاص بالدولة” إلى ما يشبه الصندوق الأسود، وبعد أن عاين المرصد استعمالا مفرطا من طرف الحكومات المتعاقبة لموارد هذا الصندوق واستغلالا واضحا له لشراء السلم الاجتماعية وضمان ولاء بعض المنظمات.
ما هو “الحساب الخاص بالدولة”؟
تم احداثه بمقتضى الفصل 57 من القانون عدد 101 لسنة 1974 المؤرخ في 25 ديسمبر 1974 المتعلق بقانون المالية لسنة 1975 والذي تم بموجبه الزيادة في مساهمة الأعراف الواجب دفعها بعنوان أنظمة الضمان الاجتماعي بنسبة 0،5 بالمائة من مجموع الأجور أو المرتبات أو الأرباح التي يتقاضاها العملة.
ويقتصر دور الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على ترسيم محاصيل هذه المساهمة في “الحساب الخاص بالدولة” ويتم استعمال موارده بقرار من الوزير الأول / رئيس الحكومة باعتبارها الجهة الآمرة بالصرف وذلك بمقتضى الفصل 58 من القانون سالف الذكر المتعلق بقانون المالية لسنة 1975 الذي نص على ما يلي: “يستعمل محصول الزيادة المذكورة خاصة لتطوير النشاطات والتدخلات في الميادين الاقتصادية ويقع توزيعه بموجب قرار من وزير الوزير الأول”.
هل التزمت الحكومات بالقانون؟
الاجابة تأتي قطعا بالنفي، وها ما أورده “مرصد رقابة” في رسالته الى رئيسة الحكومة، فالحكومات المتعاقبة استعملت موارد هذا الحساب لغايات اخرى. وظل رؤساء الحكومة المتعاقبين قبل الثورة وبعدها، يتصرفون في موارده بالأوامر، وخارج إطار القانون.
مرصد رقابة فتح هذا الملف منذ 2019 ورفع شكاية لدى القضاء ضد رؤساء الحكومة المتعاقبين منذ 2011 الذين أصدروا أوامر لتوزيع موارد الحساب الخاص بشكل فيه مخالفات للقانون.
دائرة المحاسبات بدورها قامت بمهمة رقابية على الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (التقرير السنوي عدد 28)، الذي أشار إلى صرف مبالغ هامة من موارد “الحساب الخاص بالدولة” لغير ما خصصت له “حيث تم بناء على قرارات صادرة من الوزير الأول/رئيس الحكومة”.
إلى أين تذهب أموال هذا الصندوق؟
حسب تقرير دائرة المحاسبات تم تحويل أموال لفائدة مؤسسات خاصة بقيمة (10,6 م.د) ومؤسسات عمومية بقيمة (2,688) وجماعات محلية (1,538 م.د) وقباضة مالية (249,950 أ.د) وذلك بالإضافة إلى صندوق الخدمة الوطنية (16,3 أ.د) وصناديق أخرى، وعدد من الجمعيات الناشطة في المجتمع المدني أو المجال الرياضي دون أن تبين قرارات الوزير الأول أسباب تحويل المبالغ المذكورة.
تلك التحويلات تمت تطبيقا لقرارات التوزيع الصادرة عن الوزير الأول، إلا أنها لا تندرج ضمن التدخلات ذات الطابع الاقتصادي” الذي ينص عليه القانون المنظم.
زد على ذلك، أنّ إجابة وزير الشؤون الاجتماعية بخصوص السؤال الكتابي الموجه إليه بتاريخ 27 سبتمبر 2018 بخصوص التحويلات من “الحساب الخاص بالدولة” ذهب إلى ما خلص إليه تقرير دائرة المحاسبات وهو ما يعتبر إهدارا للأموال العمومية وسوء تصرف فيها وتبديدا لها.
يذكر التقرير الخاص لمراجع الحسابات للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للسنة المالية 2018 الصادر بتاريخ 12 فيفري 2020 أن الاعتمادات الموزعة على مختلف الهياكل والمنظمات الممثلة بمجلس إدارة الصندوق (الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، غرف التجارة والصناعة، الاتحاد العام التونسي للشغل، الجامعة العامة التونسية للشغل، اتحاد عمال تونس، النقابة التونسية للفلاحين منظمة الدفاع عن المستهلك، كونفدرالية المؤسسات والمواطنة) ما قدره 21،260 مليون دينار وذلك تطبيقا للقرارات الصادرة عن رئيس الحكومة.
ويأتي ذلك التوزيع الغريب وغير القانوني للاعتمادات فيما تشكو الوضعية المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي صعوبات كبرى نتج عنها تأخير في صرف جرايات المتقاعدين مما دفع إدارة الصندوق إلى اللجوء إلى استعمال العائدات المالية للحساب الخاص بالدولة لتمويل حاجياته من السيولة وهو ما يعتبر تصرفا مخالفا للقانون والتراتيب الجاري بها العمل وفيه تجاوز واضح للسلطة.
الخلل هنا!
حسب عملية التقصي التي قام بها بها المرصد، من سنة 2010 الى سنة 2018 استحوذت منظمات وطنية بعينها على نصيب الأسد من موارد هذا الصندوق الأسود وعلى رأسها الاتحاد العام التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية الذي تحصل على 56,5 مليون دينار، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري الذي تحصل على 30 مليون دينار، والاتحاد العام التونسي للشغل الذي تحصل على 26 مليون دينار. (انظر الفيديو المرفق)
ومن الطبيعي ألا يدخل دعم المنظمات تحت إطار “تطوير النشاطات والتدخلات في الميادين الاقتصادية”، فذلك مخالف للنص القانوني المنظم للحساب الخاص بالدولة، ناهيك عن أنّ للمنظمات منتسبيها وانخراطاتها واستثماراتها ولا تحتاج دعم الدولة.
دعم النقابات بالذات مخالف للاتفاقيات الدولية، فاتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 98 المتعلقة بالمفاوضات الاجتماعية، والاتفاقية رقم 151 المتعلقة بعلاقات العمل في مجال الوظيفة العمومية، تمنعان صراحة انتفاع المنظمات النقابية بالتمويل العمومي بل وتعتبرانه وجها من أوجه التدخل في العمل النقابي.
لا مناص من تنقيح القانون
ناهز الرصيد المحاسبي للحساب الخاص بالدولة المدون بالقوائم المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتاريخ 31/12/2018 الـ 350 مليون دينار.
ويقول “مرصد رقابة” في رسالته إلى رئاسة الحكومة، أنه وفي إطار تفعيل مبدأ تنويع مصادر التمويل المنصوص عليها في “استراتيجية اصلاح الصناديق الاجتماعية الصادر عن رئاسة الحكومة خلال شهر مارس 2019″، وعملا بأحكام القانون الأساسي عدد 15 لسنة 2019 المؤرخ في 13 فيفري 2019 المتعلق بالقانون الأساسي للميزانية وخاصة الباب الثالث منه الخاص بالحسابات الخاصة والصناديق الخاصة (الفصول: 29و30 و31 و32 و33) والذي ينص على أنّه “تنقح وتلغى الصناديق الخاصة بمقتضى قانون المالية للسنة وقانون المالية التعديلي”، فإن المرصد يقترح إضافة فصل جديد بقانون المالية لسنة 2022 يكون نصه كالتالي:
“يلغى الفصل 58 من القانون عدد 101 لسنة 1974 المؤرخ في 25 ديسمبر 1974 المتعلق بقانون المالية لسنة 1975 ويعوض بما يلي: “يستعمل محصول الزيادة المذكورة في تدعيم موارد الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتحول بقايا موارد الحساب الخاص لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي المحدث بمقتضى الفصل 57 من القانون عدد 101 لسنة 1974 المؤرخ في 25 ديسمبر 1974 المتعلق بقانون المالية لسنة 1975 إلى حساب الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.
ما فوائد تطبيق مقترح “مرصد رقابة”؟
لو تستجيب حكومة الأمر الواقع لنداء العقل ومقترح “مرصد رقابة”، فستجني تونس من وراء ذلك فوائد عظيمة، لأنّ المقترح يتضمن تحويل الرصيد الموجود حاليا في الحساب (في حدود 350 مليون دينار في 2018) الى موارد الصندوق، ويتم تحويل الموارد السنوية مستقبلا للصندوق (في حدود 50 الى 70 مليون دينار سنويا).
تعزيز موارد صندوق الضمان الاجتماعي سيدرّ منافع كثيرة ويجلب حلقة مترابطة من الفوائد لمؤسسات وهياكل كثيرة متضررة حاليا.
فتعزيز موارد صندوق الضمان الاجتماعي سيمكّنه من تقليص ديونه تجاه الصندوق الوطني للتأمين على المرض “كنام”.
وتبعا لذلك، سيمكن تحسين وضع صندوق التأمين على المرض من دفع مستحقات عديد المنشآت الطبية، وهو ما سيمكّن بدوره من دفع جزء من ديونها تجاه الصيدلية المركزية التي تعيش أزمة سيولة خانقة تسببت في توقف توريد عديد الادوية بما يهدد صحة وحياة تونسيين وتونسيات.
قصارى القول، إنّ إلغاء الصندوق الأسود انفاذ للقانون وتحقيق للعدالة وتحسين للخدمات الصحية للتونسيين كافة واستفادة لهم جميعا دون تمييز
رابط الفيديو
