التفرغ النقابي امتياز غير قانوني يتمتع به حاليا مئات النقابيين في كل القطاعات والمؤسسات العمومية وكل جهات البلاد، في مخالفة صريحة لقوانين الجمهورية وللاتفاقيات الدولية وللأحكام القضائية ولقواعد التصرف السليم. وأغلب قيادات الصف النقابي الاول في المكتب التنفيذي والاتحادات الجهوية والجامعات العامة والنقابات الأساسية تواصل التمتع بهذا الامتياز المخالف للقانون.
ممنوع قانونا أن يتفرغ عون عمومي للعمل النقابي ويواصل الحصول على أجره وامتيازاته من طرف الدولة أو المؤسسة أو المنشأة العمومية التي ينتمي اليها.نفس هذه الممارسة كان يمارسها حزب التجمع المنحل، وتم الحكم بالسجن النافذ بعد الثورة على آخر أمين عام للتجمع في قضية وضع على الذمة.
التفرغ النقابي العشوائي على غير الصيغ القانونية مازال يُمارس في البلاد بعد الثورة وبعد أن تصورنا أننا أصبحنا دولة قانون ومؤسسات . استضعاف الدولة ما زال متواصلا بطرق مختلفة ولا وجود لمن يكترث
التفرغ النقابي بين الواقع والقانون
“الوضع على الذمة” اجراء معمول به في أغلب الوزارات والمؤسسات العمومية طيلة عقود عديدة رغم مخالفته للقوانين الجاري بها العمل ولقواعد التصرف السليم. واستفادت من ذلك الاجراء منظمات عديدة على رأسها حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل ومنظمة الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للمرأة.
وبعد الثورة تم اتخاذ قرار في عدد من الوزارات والمؤسسات بإيقاف العمل بهذا الاجراء غير القانوني. كما تمت احالة بعض المسؤولين على القضاء بتهمة اللجوء الى هذا الاجراء غير القانوني والتسبب جراء ذلك في الاضرار بالإدارة. وصدرت أحكام سجن عدد من المسؤولين السابقين بتجاوز القانون ووضع عدد من الموظفين في حالة تفرغ على ذمة التجمع الدستوري الديمقراطي في حين أن الوزارات التي يشرفون عليها هي التي تتولى خلاص رواتبهم.
وفي سنة 2012 أصدرت الهيئة العليا للرقابة الادارية والمالية توصية “بإنهاء العمل بهذا الاجراء وباتخاذ كافة الاجراءات اللازمة لوضع حد له نظرا لأنه يتعارض مع قانون الوظيفة العمومية وقواعد التصرف السليم، كما أن المؤسسات الأصلية للأعوان العموميين تأبى أن تتحمل أعباء تأجيرهم والأعباء الاجتماعية ذات الصلة خاصة أنهم لا ينجزون أي عمل بها. مع العلم أن فقه قضاء المحكمة الادارية المتواتر منذ سنة 2004، اعتبرتها بمثابة القرارات المتسمة باللاشرعية الصارخة والتي يكون مآلها ليس الالغاء فحسب بل المعدومية.
غير أن اجراء “الوضع على الذمة” ظل متواصلا في وزارات ومؤسسات عديدة، خاصة في علاقة بمسؤولين نقابيين مركزيين وجهويين، تحت مسمى “التفرغ النقابي”. السؤال المثير للاستغراب هو كيف تجرؤ منظمة وطنية على المطالبة بإجراء غير قانوني والأعجب منه أن تستجيب الدولة لذلك ؟
مطالبة المركزية النقابية بتمتيع قيادي جهوي نقابي ب “رخصة نقابية خالصة الأجر” مطلب لا يستند الى أي شرعية قانونية. الاطار الوحيد الممكن قانونيا لذلك الطلب هو “العطلة الاستثنائية” التي جاء تفصيلها في الفصل 40 من القانون 112 لسنة 1983، وأساسا في المطة الخامسة التي تتعلق بالموظفين الممثلين للنقابات “بمناسبة انعقاد المؤتمرات المهنية النقابية الجامعية والقومية والدولية أو اجتماع الهيئات المديرة “.ويضيف الفصل أن مدة العطلة الممنوحة تساوي “مجموع الأيام المذكورة الاستدعاءات يضاف اليها عند الاقتضاء آجال السفر اللازمة”. وهذا يعني أن العطلة الاستثنائية لا يمكن أن تكون الا ظرفية وقصيرة وخاضعة لترخيص محدد بالارتباط بحدث هام يتعلق بمؤتمر نقابي مع ضرورة الاستظهار بما يؤيد ذلك الطلب .
والقانون يمكّن الاتحاد وغيره من المنظمات من تفريغ من يريد من النقابيين اما بشكل وقتي عبر صيغة “العطلة بدون أجر” التي نص عليها الفصل 50 من القانون المذكور (ونصه : يمكن أن تمنح للموظف عطل بدون أجر لا تتجاوز مدتها ثلاثة أشهر خلال السنة ولا تعتبر هذه العطل خدمة فعلية)، أو بمدى طويل: عبر آلية الالحاق (الفصل 61) أو آلية الاحالة على عدم المباشرة (الفصل 70) .
صدر المنشور عدد 04 لسنة 2020 المتعلق “بالأعباء المثقلة الى المؤسسات والمنشآت العمومية بعنوان مصاريف راجعة للوزارات أو الجمعيات أو المنظمات أو أي هياكل أخرى عمومية أو خاصة”. هذا المنشور المهم ينص على ضرورة “امتناع المؤسسات والمنشآت العمومية عن التكفل بأي مصاريف لا تندرج ضمن الاعباء المرتبطة بنشاطها، سواء تمثل ذلك في التعهد بالقيام بأشغال أو اقتناء معدات أو مواد أو اسداء خدمات لفائدة الوزارات أو غيرها من الهياكل العمومية أو الخاصة أو المنظمات أو الجمعيات. أو من خلال وضع أي أملاك أخرى منقولة أو غير منقولة على ذمتها أو اسنادها أي امتيازات نقدية أو عينية بأي عنوان كان” .
المنشور عدد 4 المؤرخ في 1 جوان 2020 والمتعلق بمنع المؤسسات العمومية من التكفل بمصاريف لا تدخل ضمن أعباء أنشطتها مازال لم يأخذ حظه في التطبيق. مرصد رقابة يحرص على مراقبة مدى التزام المؤسسات والمنشآت العمومية بهذا المنشور ومدى حرصها على انهاء الامتيازات غير المشروعة الممنوحة لجهات ادارية ونقابية وخاصة. ويتعهد المرصد بالنشر الدوري للمعطيات المتعلقة بالتفرغ الى حين انهاء هذا السلوك غير القانوني تماما.
رصد السلوكيات المخالفة للقانون
ألم يحن الوقت للاتحاد حتى يقوم بمراجعة كل السلوكيات المخالفة للقانون، وأن ينسجم مع مناخات الشفافية التي جاءت بها الثورة والدستور، وأن يبدأ الاصلاح المنشود بإصلاح هياكله وسلوكياته . على الاتحاد ألا يضيع الوقت ولا يخسر ما تبقى من شرعيته اذا لم يكن التوجه نحو الاصلاح ذاتيا فسيفرضه عليه التونسيون.
شمل التفرغ النقابي جميع المؤسسات العمومية وفي كل جهات البلاد وفي أغلب الوزارات من ذلك مراسلة مرصد رقابة الموجهة الى الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه ، والى وزارة الفلاحة وزارة الاشراف للفت النظر وتحميل المسؤوليات لإنهاء العمل بقرار غير قانوني الادارة العامة للشركة تم بموجبه وضع سيارة على ذمة الكاتب العام للنقابة العامة للمياه بالاتحاد العام التونسي للشغل.
على سبيل الذكر بعد تقصي فريق مرصد رقابة تبين ان الكاتب العام لجامعة الفلاحة بالاتحاد العام التونسي للشغل بتونس العاصمة يتواجد بصفة منتظمة في مكتب داخل مقر وزارة الفلاحة، والحال أنه عون مرسم ضمن أعوان المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بتوزر، ويحصل على أجره وامتيازاته كاملة بتلك الصفة.
وجه مرصد رقابة طلب نفاذ الى وزير الفلاحة للمطالبة بتوضيح الوضعية الادارية للسيد الكاتب العام لجامعة الفلاحة ، والإطار القانوني لمهمته بمقر الوزارة في العاصمة، والإطار القانوني لتأجيره، والأجر السنوي والامتيازات المسندة اليه.
كما تحصل فريق مرصد رقابة على ملف تفرغ نقابي للممرض الرئيس بالمستشفى الجهوي بجندوبة والكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل بجندوبة ، يتضمن طلبا موجها من الامين العام المساعد للاتحاد المسؤول عن النظام الداخلي الى المدير الجهوي للصحة بجندوبة بتاريخ 19 مارس 2019 يتضمن طلب رخصة نقابية لمدة ثلاثة أشهر للقيام بمهامه النقابية بالجهة (حضور الهيئات المديرة والإشراف على المؤتمرات القطاعية)، مرفقا بمطلب عطلة استثنائية من طرف المعني بالأمر يتضمن امضاء طالب العطلة والناظر العام وموافقة مدير المستشفى الجهوي بجندوبة بتاريخ 21 مارس 2019. وبتحري فريق مرصد رقابة ثبت صحة هذا الملف وتأكد أن الشخص المذكور موجود في حالة تفرغ نقابي متواصلة منذ سنوات عديدة.
كل التجاوزات تكلف الدولة نزيف مبالغ هامة من المال العام، وتتسبب في ضرب لمعنويات الكثير من المواطنين الرافضين لتواصل ممارسات تخرق مبادئ الدستور في المساواة بين المواطنين والشفافية والحوكمة الرشيدة والحفاظ على المال العام، وتخرق المنظومة القانونية للموظفين والأعوان العموميين، وتضرب قيمة العمل وثقافة دولة القانون والمؤسسات،
القضاء هو الفيصل
مرصد رقابة قام برفع شكاية لدى القطب القضائي الاقتصادي والمالي ضد كل من تمتع بهذا الامتياز المخالف للقانون والاتفاقيات الدولية وكل الوزراء والمسؤولين الذي صادقوا على مثل تلك القرارات.
تم الاستماع لمرصد رقابة من طرف قاضي التحقيق المتعهد بالشكاية المتعلقة بالتفرغ النقابي لدى القطب القضائي الاقتصادي والمالي. وهي الشكاية التي رفعها وقدم فيها معطيات ووثائق تثبت تمتع عدد من القيادات النقابية المركزية والجهوية والقطاعية والمحلية ومن النقابات الأساسية بتفرغ عشوائي غير قانوني، مع مواصلة الخلاص والتمتع بالامتيازات من المال العام بشكل مخالف للقانون. والشكاية قدمها المرصد ضد كل المتمتعين بهذا الاجراء غير القانوني وكل المسؤولين الذين وقعوا على قرارات “وضع على الذمة” خلال السنوات الماضية. وسيعلم المرصد الرأي العام بكل التطورات في هذا الملف بكل شفافية.
كما قام المرصد بتوجيه مراسلة الى وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية ومكافحة الفساد لمطالبته بتطبيق القانون ومنع اللجوء الى مثل هذا الاجراء الباطل قانونا. ويؤكد مرصد رقابة أنه سيواصل كل أشكال النضال والتحرك من أجل انهاء هذه العربدة والاستقواء على قوانين الجمهورية، معولين على دعم النقابيين الشرفاء الحريصين على اصلاح منظمة حشاد ومصالحتها مع الثورة التونسية ومع مناخات الشفافية في البلاد.
منهجية مرصد رقابة في مثل هذه القضايا هو اعلام الجهات المعنية بكامل المعطيات وتحميلها المسؤولية حتى تتخذ القرارات المتوجبة عليها. وفي صورة عدم القيام بالإجراءات المفروضة قانونا تتم الشكاية بتلك الجهات بتهمة التستر على جرائم والتخاذل في الدفاع عن المال العام ومصالح الدولة التونسية.
انطلق المرصد في مراسلة بعض تلك المؤسسات والوزارات الراجعة اليها بالنظر للفت نظرها لضرورة انهاء حالات التجاوز المسجلة لديه في هذا الخصوص. وهذا لا ينقص من مسؤولية الحكومة في اتخاذ القرارات اللازمة لإنهاء كل حالات التفرغ غير القانونية الموجودة وهي بالمئات وإيقاف العمل بهذا الاجراء نهائيا. لأن الزمن القضائي مختلف عن الزمن السياسي والزمن الاداري.
قام مرصد رقابة بنشر نص المراسلة التي توجه بها الى السيد وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية ومكافحة الفساد بخصوص التفرغ النقابي وآلية الوضع على الذمة ، تتضمن معطيات دقيقة مبنية على وثائق رسمية بخصوص حالات التفرغ المسجلة في عدد من الوزارات وتكلفتها المالية على الدولة.
كما تتضمن كل المؤيدات القانونية على مخالفة كل حالات التفرغ الموجودة والمقدرة بالمئات ، ومؤيدات من فقه القضاء في البلاد منذ 2004 تؤكد تجريم هذه الممارسة واعتبار أي مقررات وضع على الذمة “قرارات متسمة باللاشرعية الصارخة ومآلها ليس الالقاء فقط بل المعدومية“.
كما تضمنت المراسلة كشفا للمغالطة الكبرى التي ترد بشكل متواتر في تصريحات عدد من القيادات النقابية ومفادها أن التفرغ النقابي وارد في الاتفاقيات الدولية باعتباره يدخل في باب التسهيلات للعمل النقابي. حيث أورد مرصد رقابة الفصول المتعلقة في اتفاقيات العمل الدولية عدد 96 و135 و151 والتي اعتبرت أن التسهيلات المطلوبة لا يجب أن تؤثر على سير العمل في المؤسسة المعنية، والتي منعت صراحة انتفاع المنظمات النقابية بالتمويل العمومي.
كما تضمنت المراسلة اشارة الى قرار هيئة النفاذ الى المعلومة التي رفعها مرصد رقابة ضد الاتحاد العام التونسي للشغل والذي أكد على أن حالات التفرغ النقابي تعتبر “تمويلا عموميا باعتبار تكفل الدولة بخلاص الأعوان الموضوعين على ذمة الاتحاد وتحمل أعبائهم الاجتماعية على حساب المال العام”. وهو ما يجعل الاتحاد في مخالفة صريحة لاتفاقيات العمل الدولية، بما يعرضه لعقوبات جدية.
مراسلة المرصد للسيد وزير الدولة لدى رئيس الحكومة المكلف بالوظيفة العمومية ومكافحة الفساد كان هدفها تحميل المسؤولية للسيد الوزير وتشجيعه للمضي قدما في خطوات عملية جريئة لإنفاذ القانون ومنع تواصل الانتهاك الخطير لقوانين الدولة التونسية ولدولة القانون والمؤسسات وإيقاف النزيف المتواصل غير المبرر للمال العام.
ويعمل مرصد رقابة من أجل انهاء العمل نهائيا بهذه الممارسة غير القانونية التي أصبحت من أبرز أشكال التعنت النقابي. ولو اقتضى الأمر تقديم شكاية بالاتحاد العام التونسي للشغل لدى منظمة العمل الدولية بسبب انتهاكه للاتفاقيات الدولية والقوانين المحلية وتمتعه بتمويل عمومي مرتفع لا يقل عن 6 مليون دينار سنويا مع المطالبة بضرورة اعادة كل مبالغ الدعم غير القانونية التي تحصل عليها في السنوات الماضية والمقدرة بعشرات ملايين الدينارات.
فرض تطبيق القانون لا يمكن أن يكون بالشعارات فقط