تقرير هدم البنيان

كان إنتشار الفساد من أهم أسباب اندلاع ثورة الحرية والكرامة في تونس في ديسمبر 2010. حيث هيمنت مافيات العائلة الحاكمة والمقربين منها من كبار المسؤولين، سواء في الحزب الحاكم أو في الدولة، على الآقتصاد الوطني، مطوعة قوانين البلاد وتشريعاتها لحماية مصالحها من المنافسة ومن المحاسبة.
وكان من الطبيعي أن تتجه أولوية التونسيين أثناء المرحلة الانتقالية التي تلت الثورة إلى التحقيق في ملفات فساد النظام المخلوع ومحاسبة المرتبطين به ومصادرة أملاكهم والعمل على استرجاع الأموال المنهوبة.

كما كان من الطبيعي أن يحرص الفاعلون في تلك المرحلة على تركيز المراسيم والقوانين والمؤسسات الكفيلة بالتصدي لذلك الوباء الذي خرب اقتصاد التونسيين وسرق مقدراتهم تاركا إياهم في وضع صعب بدولة ضعيفة الموارد عاجزة عن خلق الثروة وتشغيل الشباب وبخدمات متردية وحوكمة منهارة.

وحصل وفاق سياسي وشعبي واسع لتضمين دستور 27 جانفي 2014 جملة من المبادئ الرائدة المتعلقة بعلوية القانون والفصل بين السلط وحياد الادارة والديمقراطية والحقوق والتشاركية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد وغيرها من المبادئ المنبثقة أساسا من الاتفاقيات الدولية، كما تضمن الدستور عددا من الهيئات الدستورية المستقلة بصلاحيات حقيقية كبرى في سابقة غير معهودة في إفريقيا والعالم العربي.
ثم تم خلال السنوات الاربع التي تلت إصدار الدستور بناء منظومة تشريعية في مجال محاربة الفساد وتعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة متطورة ومنسجمة مع أعلى المعايير الدولية وفيها تحقيق لأغلب التزامات تونس المترتبة عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد وغيرها من التعهدات الدولية. حيث أصبح لتونس قوانين متعلقة بحرية الولوج إلى المعلومة، وحماية المبلغين عن الفساد، ومنع غسيل الأموال، والشفافية في المؤسسات وغيرها. بالاضافة الى قوانين لاحداث قطب قضائي متخصص في قضايا الفساد، وهيئة دستورية للحوكمة الرشيدة ومحاربة الفساد وغيرها المكاسب الحقيقية في هذا المجال.
ولكن التطور التشريعي النوعي والسريع لم ترافقه إرادة سياسية من طرف الحكومات المتعاقبة في تحويل شعارات محاربة الفساد إلى واقع، وفي تطهير مناخات الأعمال والتصدي للوبيات المصلحة والفساد التي استفادت من الفوضى السياسية للفترة الانتقالية من أجل تعزيز نفوذها وهيمنتها على الاقتصاد والاعلام والسياسة وأجهزة الدولة.

وهو ما خلق احتقانا شعبيا متزايدا وشعورا متعاظما أن الفساد زادت حدته عن مستوى ما قبل الثورة وأزمة ثقة كبرى في السياسيين من مسؤولين حكوميين وبرلمانيين وفاعلين حزبيين. ووفرت تلك العوامل مناخا ملائما لرئيس الجمهورية للقيام بانقلاب دستوري ألغى فيه تدريجيا البرلمان المنتخب، وجمد فيه دستور 2014 المعتمد باجماع وطني كبير، وركز بموجبه كل السلطات والصلاحيات بين يديه.
وقد اعتمد الرئيس لتبرير خياره الآحادي ذلك على خطاب مركز على شعارات محاربة الفساد واستعادة الدولة من الفاسدين وتخليص الاقتصاد الوطني من المحتكرين ولوبيات المصلحة. وحصل بتلك الشعارات على دعم شعبي استعمله لتمرير قرارات منافية لروح الديمقراطية والقيم الكونية والمعايير الدولية والتزامات تونس المنبثقة عن الاتفاقيات الدولية. حيث ضرب استقلالية القضاء وحوله من سلطة مستقلة إلى وظيفة تابعة يتحكم فيها بالتعيينات والاعفاءات الانتقامية والتعليمات عبر المراسيم والقرارات.

كما توجه الرئيس، صاحب كل الصلاحيات، سريعا إلى تدمير المنظومة التشريعية التي انجزت في المرحلة الانتقالية مباشرة بعد الثورة ثم في المرحلة بعد اعتماد دستور الثورة في مجال الشفافية والحوكمة ومحاربة الفساد بشكل كامل، حيث ألغى الهيئات الرقابية المستقلة (الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، بالاضافة للمجلس الأعلى للقضاء). وجمّد بالتالي العمل بقوانين التصريح بالمكاسب والمصالح، وحماية المبلغين عن الفساد. كما أصدرت حكومته تشريعات فيها تضييق على حق النفاذ الى المعلومة، وفيها تراجع عن مكتسبات حقيقية في مجال شفافية الصفقات العمومية. وأصدر مرسوما للصلح الجزائي يفتح الباب للمصالحة مع الفاسدين ويضرب مبادئ المحاسبة والعدالة الانتقالية. كما أصدر نصا دستوريا، صوّت عليه أقل من ثلث الناخبين، فيه تراجع خطير عن العديد من المكتسبات التي وردت في دستور 27 جانفي 2014 خاصة في مجال مكافحة الفساد واستقلالية القضاء وبالتالي التراجع عن تعهدات توتس بمقتضى الاتفاقيات الدولية.

مرصد رقابة، جمعية تنتمي إلى المجتمع المدني وتحاول القيام بدورها في ممارسة رقابة مواطنية متواصلة على السلطة التنفيذية وباقي مؤسسات الدولة تكريسا لمبادئ المساءلة والمحاسبة والشفافية، في ظل التضييق على عملها والاستهداف المتواصل لبعض أفرادها بالمحاكمات والتتبعات، تصدر هذا التقرير المفصل لدق ناقوس الخطر ولفت أنظار التونسيين لهذا التراجع الخطير في منظومة محاربة الفساد في تناقض مع الشعارات الرسمية الرنانة في هذا الصدد.

ويوجّه المرصد في آخر التقرير توصيات مفصّلة إلى الجهات الرسمية التونسية لإلغاء أي تشريعات أو قرارات تتناقض مع إلتزامات الدولة التونسية بموجب الاتفاقيات الدولية في مجال مكافحة الفساد، بما في ذلك القرارات التي استهدفت استقلالية القضاء وتلك التي شملت تجميد قوانين ومؤسسات الرقابة ومحاربة الفساد. كما وجه توصيات إلى صاحب القرار بالتسريع في إحداث المحكمة الدستورية، وهيئة مستقلة لمكافحة الفساد، وقانون جديد للطوارئ منسجم مع المعايير الدولية، مع توفير كل شروط الاستقلالية والتأمين والنجاعة لعمل القطب القضائي الاقتصادي والمالي، وكل ضمانات حرية التنظم والرقابة لمنظمات المجمتع المدني. كما يختم التقرير بتوصيات للمؤسسات الدولية المعنية بتعزيز التعاون مع المجتمع المدني التونسي الذي يراقب الدولة ويحارب الفساد وينشر ثقافة الحوكمة ويدافع عن ضرورة احترام تعهدات البلاد بموجب الاتفاقيات الدولية المنطلقة من المبادئ الانسانية المشتركة.

اكتب تعليق

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعي

القائمة البريدية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك كل جديد

مرصد رقابة” منظمة وطنية تأسست منذ اكتوبر 2019 هدفها الأسمى ترسيخ ثقافة الرقابة المواطنية على مؤسسات الدولة والمساهمة في إستئصال ظاهرة الفساد عبر كل الآليات والوسائل القانونية وعبر تشجيع وتكريس الرقابة المواطنية من خلال اتاحة مجموعة من الاليات الضرورية لذلك للعموم ، على غرار النفاذ الى المعلومة والتبليغ على الفساد وعدة معلومات مفتوحة اخرى متعلقة بجميع مؤسسات ومنشئات الدولة وذلك بهدف تشجيع المواطنين على القيام بالتبليغ عن حالات الفساد والعمل على تطوير المنظومة القانونية والآليات العلمية المتعلقة بحماية المبلغين على الفساد. يهدف مرصد رقابة الى إعداد دراسات هيكلية ومؤسساتية وتشريعية لتطوير الحوكمة والشفافية وحسن التصرف في الادارة والمؤسسات والمنشآت العمومية، والتشبيك مع هيئات ومنظمات وطنية ،اقليمية ودولية فاعلة في مكافحة الفساد

روابط هامة

تواصل معنا

+216 90 575 000 / +216 71 783 099
Contact@raqabah.org

خريطة المرصد

جميع الحقوق محفوظة – مرصد رقابة © 2024